الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن (نسخة منقحة)
وَهَذَا الْوَجْهُ يَشْهَدُ لَهُ قُرْآنٌ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا} [73/ 14]، فَقَوْلُهُ: كَثِيبًا مَهِيلًا أَيْ رَمْلًا مُتَهَايِلًا، وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ: وَمُشَابَهَةُ الدَّقِيقِ الْمَبْسُوسِ بِالرَّمْلِ الْمُتَهَايِلِ وَاضِحَةٌ، فَقَوْلُهُ: وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا مُطَابِقٌ فِي الْمَعْنَى لِتَفْسِيرِ وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا بِأَنَّ بَسَّهَا هُوَ تَفْتِيتُهَا وَطَحْنُهَا كَمَا تَرَى.وَمَا دَلَّتْ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَاتُ مِنْ أَنَّهَا تُسْلَبُ عَنْهَا قُوَّةُ الْحَجَرِيَّةِ وَتَتَّصِفُ بَعْدَ الصَّلَابَةِ وَالْقُوَّةِ بِاللِّينِ الشَّدِيدِ الَّذِي هُوَ كَلِينِ الدَّقِيقِ وَالرَّمْلِ الْمُتَهَايِلِ. يَشْهَدُ لَهُ فِي الْجُمْلَةِ تَشْبِيهُهَا فِي بَعْضِ الْآيَاتِ بِالصُّوفِ الْمَنْفُوشِ الَّذِي هُوَ الْعِهْنُ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [101/ 5]، وَقَوْلِهِ تَعَالَى:{يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} [70/ 8- 9]، وَأَصْلُ الْعِهْنِ أَخَصُّ مِنْ مُطْلَقِ الصُّوفِ لِأَنَّهُ الصُّوفُ الْمَصْبُوغُ خَاصَّةً. وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبِي سُلْمَى فِي مُعَلَّقَتِهِ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: الْجِبَالُ مِنْهَا جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ وَمُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ، فَإِذَا بُسِّتْ وَفُتِّتَتْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَطُيِّرَتْ فِي الْجَوِّ أَشْبَهَتِ الْعِهْنَ إِذَا طَيَّرَتْهُ الرِّيحُ فِي الْهَوَا، وَهَذَا الْوَجْهُ يَدُلُّ عَلَيْهِ تَرْتِيبُ كَيْنُونَتِهَا هَبَاءً مُنْبَثًّا بِالْفَاءِ عَلَى قَوْلِهِ: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا لِأَنَّ الْهَبَاءَ هُوَ مَا يَنْزِلُ مِنَ الْكُوَّةِ مِنْ شُعَاعِ الشَّمْسِ إِذَا قَابَلَتْهَا:مُنْبَثًّا أَيْ مُتَفَرِّقًا، وَوَصْفُهَا بِالْهَبَاءِ الْمُنْبَثِّ أَنْسَبُ لِكَوْنِ الْبَسِّ بِمَعْنَى التَّفْتِيتِ وَالطَّحْنِ.الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا أَيْ سُيِّرَتْ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، وَعَلَى هَذَا فَالْمُرَادُ بِبَسِّهَا سَوْقُهَا وَتَسْيِيرُهَا مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ: بَسَسْتُ الْإِبِلَ أَبُسُّهَا، بِضَمِّ الْبَاءِ وَأَبْسَسْتُهَا أَبُسُّهَا بِضَمِّ الْهَمْزَةِ وَكَسْرِ الْبَاءِ، لُغَتَانِ بِمَعْنَى سُقْتُهَا، وَمِنْهُ حَدِيثُ: «يَخْرُجُ أَقْوَامٌ مِنَ الْمَدِينَةِ إِلَى الْيَمَنِ وَالشَّامِ، وَالْعِرَاقِ يَبُسُّونَ وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ».وَهَذَا الْوَجْهُ تَشْهَدُ لَهُ آيَاتٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ} الْآيَةَ [18/ 47]، وَقَوْلِهِ: {وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا} [52/ 10].وَقَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لِهَذَا فِي سُورَةِ النَّمْلِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [27/ 88].الْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا نُزِعَتْ مِنْ أَمَاكِنِهَا وَقُلِعَتْ، وَقَدْ أَوْضَحْنَا أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ رَاجِعٌ لِلْوَجْهِ الْأَوَّلِ مَعَ الْإِيضَاحِ التَّامِّ لِأَحْوَالِ الْجِبَالِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَطْوَارِهَا، بِالْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، وَفِي سُورَةِ طه فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا} [20/ 105]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} [78/ 20]، وَالْهَبَاءُ إِذَا انْبَثَّ أَيْ تَفَرَّقَ وَاضْمَحَلَّ وَصَارَ لَا شَيْءَ، وَالسَّرَابُ قَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: {حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا} [24/ 39].
وَقَوْلُهُ: {أَزْوَاجًا} أَيْ أَصْنَافًا ثَلَاثَةً، ثُمَّ بَيَّنَ هَذِهِ الْأَزْوَاجَ الثَّلَاثَةَ بِقَوْلِهِ: {فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [56/ 8- 12]، أَمَّا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ فَهُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ، كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ} [56/ 27- 28]، وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ هُمْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ كَمَا أَوْضَحَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ الْآيَاتِ} [56/ 41- 42].قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: قِيلَ لَهُمْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ لِأَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِأَيْمَانِهِمْ.وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يُذْهَبُ بِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ إِلَى الْجَنَّةِ.وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ عَنْ يَمِينِ أَبِيهِمْ آدَمَ، كَمَا رَآهُمُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَذَلِكَ لَيْلَةَ الْإِسْرَاءِ.وَقِيلَ: سُمُّوا أَصْحَابَ الْيَمِينِ وَأَصْحَابَ الْمَيْمَنَةِ لِأَنَّهُمْ مَيَامِينُ، أَيْ مُبَارَكُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّهُمْ أَطَاعُوا رَبَّهُمْ فَدَخَلُوا الْجَنَّةَ، وَالْيُمْنُ الْبَرَكَةُ.وَسُمِّيَ الْآخَرُونَ أَصْحَابَ الشِّمَالِ، وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يُؤْتَوْنَ كُتُبَهُمْ بِشَمَائِلِهِمْ.وَقِيلَ: لِأَنَّهُمْ يُذْهَبُ بِهِمْ ذَاتَ الشِّمَالِ إِلَى النَّارِ، وَالْعَرَبُ تُسَمِّي الشِّمَالَ شُؤْمًا، كَمَا تُسَمِّي الْيَمِينَ يُمْنًا، وَمِنْ هُنَا قِيلَ لَهُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ أَوْ لِأَنَّهُمْ مَشَائِيمُ عَلَى أَنْفُسِهِمْ: فَعَصَوُا اللَّهَ فَأَدْخَلَهُمُ النَّارَ، وَالْمَشَائِيمُ ضِدُّ الْمَيَامِينِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ: وَبَيَّنَ- جَلَّ وَعَلَا- أَنَّ السَّابِقِينَ هُمُ الْمُقَرَّبُونَ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ} [56/ 10- 11]، وَهَذِهِ الْأَزْوَاجُ الثَّلَاثَةُ الْمَذْكُورَةُ هِيَ وَجَزَاؤُهَا فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ جَاءَتْ هِيَ وَجَزَاؤُهَا أَيْضًا فِي آخِرِهَا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ} [56/ 88- 94].وَالْمُكَذِّبُونَ هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ وَهُمْ أَصْحَابُ الشِّمَالِ.وَذَكَرَ تَعَالَى بَعْضَ صِفَاتِ أَصْحَابِ الْمَيْمَنَةِ وَالْمَشْأَمَةِ فِي الْبَلَدِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} [90/ 18- 20].وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ، وَقَوْلُهُ: مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ، اسْتِفْهَامٌ أُرِيدَ بِهِ التَّعَجُّبُ مِنْ شَأْنِ هَؤُلَاءِ فِي السَّعَادَةِ، وَشَأْنِ هَؤُلَاءِ فِي الشَّقَاوَةِ، وَالْجُمْلَةُ فِيهِمَا مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ، وَهِيَ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ قَبْلَهُ، وَهُوَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ فِي الْأَوَّلِ وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ فِي الثَّانِي.وَهَذَا الْأُسْلُوبُ يَكْثُرُ فِي الْقُرْآنِ نَحْوَ: {الْحَاقَّةُ مَا الْحَاقَّةُ} [69/ 1- 2]، {الْقَارِعَةُ مَا الْقَارِعَةُ} [101/ 1- 2]، وَالرَّابِطُ فِي جُمْلَةِ الْخَبَرِ فِي جَمِيعِ الْآيَاتِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ إِعَادَةُ لَفْظِ الْمُبْتَدَأِ فِي جُمْلَةِ الْخَبَرِ كَمَا لَا يَخْفَى، وَقَوْلُهُ: وَالسَّابِقُونَ لَمْ يَذْكُرْ فِيهِ اسْتِفْهَامُ تَعْجَبٍ كَمَا ذَكَرَهُ فِيمَا قَبْلَهُ، وَلَكِنَّهُ ذَكَرَ فِي مُقَابَلِهِ تَكْرِيرَ لَفْظِ السَّابِقِينَ.وَالْأَظْهَرُ فِي إِعْرَابِهِ أَنَّهُ مُبْتَدَأٌ وَخَبَرٌ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ فِي تَكْرِيرِهِمُ اللَّفْظَ وَقَصْدِهِمُ الْإِخْبَارَ بِالثَّانِي عَنِ الْأَوَّلِ، يَعْنُونَ أَنَّ اللَّفْظَ الْمُخْبَرَ عَنْهُ هُوَ الْمَعْرُوفُ خَبَرُهُ الَّذِي لَا يَحْتَاجُ إِلَى تَعْرِيفٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ أَبِي النَّجْمِ: فَقَوْلُهُ: وَشِعْرِي شِعْرِي، يَعْنِي: شِعْرِي هُوَ الَّذِي بَلَغَكَ خَبَرُهُ، وَانْتَهَى إِلَيْكَ وَصْفُهُ.
لِأَنَّ قَوْلَهُ: تَيَّارٍ مِنَ السَّيْلِ: يَدُلُّ عَلَى كَثْرَةِ هَذَا الْجَيْشِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالثُّلَّةِ.وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ الْعِلْمِ فِي الْمُرَادِ بِهَذِهِ الثُّلَّةِ مِنَ الْأَوَّلِينَ، وَهَذَا الْقَلِيلُ مِنَ الْآخِرِينَ الْمَذْكُورِينَ هُنَا، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الثُّلَّتَيْنِ الْمَذْكُورَتَيْنِ فِي قَوْلِهِ: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [56/ 39- 40]، فَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: كُلُّ هَؤُلَاءِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَإِنَّ الْمُرَادَ بِالْأَوَّلِينَ مِنْهُمُ الصَّحَابَةُ.وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَذْكُرُ مَعَهُمُ الْقُرُونَ الْمَشْهُودَ لَهُمْ بِالْخَيْرِ فِي قَوْلِهِ- صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «خَيْرُ الْقُرُونِ قَرْنِي ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» الْحَدِيثَ، وَالَّذِينَ قَالُوا: هُمْ كُلُّهُمْ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، قَالُوا: إِنَّمَا الْمُرَادُ بِالْقَلِيلِ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ وَهُمْ مَنْ بَعْدَ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: الْمُرَادُ بِالْأَوَّلِينَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ الْأُمَمُ الْمَاضِيَةُ قَبْلَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، فَالْمُرَادُ بِالْآخِرِينَ فِيهِمَا هُوَ هَذِهِ الْأُمَّةُ.قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ، وَغَفَرَ لَهُ: ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْأَوَّلِينَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ، وَالْآخِرِينَ فِيهِمَا مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} فِي السَّابِقِينَ خَاصَّةً، وَأَنَّ قَوْلَهُ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فِي أَصْحَابِ الْيَمِينِ خَاصَّةً.وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ هَذَا هُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ فِي الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ، الَّتِي هِيَ شُمُولُ الْآيَاتِ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ، وَكَوْنُ قَلِيلٍ مِنَ الْآخِرِينَ فِي خُصُوصِ السَّابِقِينَ، وَكَوْنُ ثُلَّةٍ مِنَ الْآخِرِينَ فِي خُصُوصِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ لِأَنَّهُ وَاضِحٌ مِنْ سِيَاقِ الْآيَاتِ.أَمَّا شُمُولُ الْآيَاتِ لِجَمِيعِ الْأُمَمِ فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ أَوَّلُ السُّورَةِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ إِلَى قَوْلِهِ: فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا لَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَخُصُّ أُمَّةً دُونَ أُمَّةٍ، وَأَنَّ الْجَمِيعَ مُسْتَوُونَ فِي الْأَهْوَالِ وَالْحِسَابِ وَالْجَزَاءِ.فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ قَوْلَهُ: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً} [56/ 7] عَامٌّ فِي جَمِيعِ أَهْلِ الْمَحْشَرِ، فَظَهَرَ أَنَّ السَّابِقِينَ وَأَصْحَابَ الْيَمِينِ مِنْهُمْ مَنْ هُوَ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ، وَمِنْهُمْ مَنْ هُوَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.وَعَلَى هَذَا فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ أَنَّ السَّابِقِينَ مِنَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ أَكْثَرُ مِنَ السَّابِقِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَأَنَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ مِنَ الْأُمَمِ السَّابِقَةِ لَيْسَتْ أَكْثَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، لِأَنَّهُ عَبَّرَ فِي السَّابِقِينَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ بِقَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ وَعَبَّرَ عَنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ.وَلَا غَرَابَةَ فِي هَذَا، لِأَنَّ الْأُمَمَ الْمَاضِيَةَ أُمَمٌ كَثِيرَةٌ، وَفِيهَا أَنْبِيَاءُ كَثِيرَةٌ وَرُسُلٌ، فَلَا مَانِعَ مِنْ أَنْ يَجْتَمِعَ مِنْ سَابِقِيهَا مِنْ لَدُنْ آدَمَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَكْثَرُ مِنْ سَابِقِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَحْدَهَا.أَمَّا أَصْحَابُ الْيَمِينِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ فَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونُوا أَكْثَرَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ مِنْ جَمِيعِ الْأُمَمِ، لِأَنَّ الثُّلَّةَ تَتَنَاوَلُ الْعَدَدَ الْكَثِيرَ، وَقَدْ يَكُونُ أَحَدُ الْعَدَدَيْنِ الْكَثِيرَيْنِ أَكْثَرَ مِنَ الْآخَرِ، مَعَ أَنَّهُمَا كِلَيْهِمَا كَثِيرٌ.وَلِهَذَا تَعْلَمُ أَنَّ مَا دَلَّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ وَاخْتَارَهُ ابْنُ جَرِيرٍ- لَا يُنَافِي مَا جَاءَ مِنْ أَنَّ نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ.فَأَمَّا كَونُ قَوْلِهِ: وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ دَلَّ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ عَلَى أَنَّهُ فِي خُصُوصِ السَّابِقِينَ، فَلِأَنَّ اللَّهَ قَالَ: {وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} [56/ 10- 12]، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى مُخْبِرًا عَنْ هَؤُلَاءِ السَّابِقِينَ الْمُقَرَّبِينَ: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ.وَأَمَّا كَوْنُ قَوْلِهِ: وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ فِي خُصُوصِ أَصْحَابِ الْيَمِينِ، فَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: {فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا عُرُبًا أَتْرَابًا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [56/ 36- 40]، وَالْمَعْنَى هُمْ- أَيْ أَصْحَابُ الْيَمِينِ- ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ، وَهَذَا وَاضِحٌ كَمَا تَرَى.
وَقَوْلُهُ أَيْضًا: وَمِنْ هَذَا الْقَبِيلِ تَسْمِيَةُ الْبِطَانِ الَّذِي يُنْسَجُ مِنَ السُّيُورِ، مَعَ إِدْخَالِ بَعْضِهَا فِي بَعْضٍ- وَضِينًا.وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ: مُخَالِفًا دِينَ النَّصَارَى دِينُهَا وَهَذِهِ السُّرُرُ الْمُزَيَّنَةُ هِيَ الْمُعَبَّرُ عَنْهَا بِالْأَرَائِكِ فِي قَوْلِهِ: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} [18/ 31]، وَقَوْلِهِ: {هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ} [36/ 56]. وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مُتَّكِئِينَ حَالٌ مِنَ الضَّمِيرِ فِي قَوْلِهِ: عَلَى سُرُرٍ وَالتَّقْدِيرُ: اسْتَقَرُّوا عَلَى سُرُرٍ فِي حَالِ كَوْنِهِمْ مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا.وَمَا ذَكَرَهُ- جَلَّ وَعَلَا- فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مِنْ كَوْنِهِمْ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ، أَيْ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى وَجْهِ بَعْضٍ، كُلُّهُمْ يُقَابِلُ الْآخَرَ بِوَجْهِهِ، جَاءَ مُوَضَّحًا فِي آيَاتٍ أُخَرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى فِي الْحِجْرِ: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [15/ 47] وَقَوْلِهِ فِي الصَّافَّاتِ: {أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ} [37/ 41- 44].قَوْلُهُ تَعَالَى: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ}.قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ} [52/ 24].قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ}.قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ} [52/ 23]، وَفِي الْمَائِدَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ} الْآيَةَ [5/ 90].قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ}.قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [56/ 22].قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ}.قَدْ قَدَّمْنَا الْآيَاتِ الْمُوَضِّحَةَ لَهُ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ} الْآيَةَ [2/ 25]، وَفِي الصَّافَّاتِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} [37/ 48]، وَفِي غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَوَاضِعِ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا}.قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ بِإِيضَاحٍ فِي سُورَةِ مَرْيَمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا} [19/ 62]، وَتَكَلَّمْنَا هُنَاكَ عَلَى الِاسْتِثْنَاءِ الْمُنْقَطِعِ وَذَكَرْنَا شَوَاهِدَهُ مِنَ الْقُرْآنِ وَكَلَامِ الْعَرَبِ، وَبَيَّنَّا كَلَامَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِي حُكْمِهِ شَرْعًا.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {أَتْرَابًا} جَمْعُ تِرْبٍ بِكَسْرِ التَّاءِ، وَالتِّرْبُ اللِّدَةُ، وَإِيضَاحُهُ أَنَّ تِرْبَ الْإِنْسَانِ مَا وُلِدَ مَعَهُ فِي وَقْتٍ وَاحِدٍ، وَمَعْنَاهُ فِي الْآيَةِ: أَنَّ نِسَاءَ أَهْلِ الْجَنَّةِ عَلَى سِنٍّ وَاحِدَةٍ لَيْسَ فِيهِنَّ شَابَّةٌ وَعَجُوزٌ، وَلَكِنَّهُنَّ كُلَّهُنَّ عَلَى سِنٍّ وَاحِدَةٍ فِي غَايَةِ الشَّبَابِ.وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ يَقُولُ: إِنَّهُنَّ يَنْشَأْنَ مُسْتَوِيَاتٍ فِي السِّنِّ عَلَى قَدْرِ بَنَاتِ ثَلَاثَةٍ وَثَلَاثِينَ سَنَةً، وَجَاءَتْ بِذَلِكَ آثَارٌ مَرْوِيَّةٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَوْنُ الْأَتْرَابِ بِمَعْنَى الْمُسْتَوِيَاتِ فِي السِّنِّ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.وَمِنْهُ قَوْلُ عُمَرَ بْنِ أَبِي رَبِيعَةَ: وَهَذِهِ الْأَوْصَافُ الثَّلَاثَةُ الَّتِي تَضَمَّنَتْهَا هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ مِنْ صِفَاتِ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ- جَاءَتْ مُوَضَّحَةً فِي آيَاتٍ أُخَرَ.أَمَّا كَوْنُهُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَبْكَارًا، فَقَدْ أَوْضَحَهُ فِي سُورَةِ الرَّحْمَنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [55/ 56، 74]، فِي الْمَوْضِعَيْنِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ نَصٌّ فِي عَدَمِ زَوَالِ بَكَارَتِهِنَّ، وَأَمَّا كَوْنُهُنَّ عُرُبًا أَيْ مُتَحَبِّبَاتٍ إِلَى أَزْوَاجِهِنَّ، فَقَدْ دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الصَّافَّاتِ: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ} [37/ 48]، لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُنَّ قَاصِرَاتُ الْعُيُونِ عَلَى أَزْوَاجِهِنَّ لَا يَنْظُرْنَ إِلَى غَيْرِهِمْ لِشِدَّةِ مَحَبَّتِهِنَّ لَهُمْ وَاقْتِنَاعِهِنَّ بِهِمْ، كَمَا قَدَّمْنَا إِيضَاحَهُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمَرْأَةَ الَّتِي لَا تَنْظُرُ إِلَى غَيْرِ زَوْجِهَا مُتَحَبِّبَةٌ إِلَيْهِ حَسَنَةُ التَّبَعُّلِ مَعَهُ.وَقَوْلُهُ فِي ص: {وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ} [38/ 52]، وَقَوْلُهُ فِي الرَّحْمَنِ: {فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ} [55/ 56]،وَأَمَّا كَوْنُهُنَّ أَتْرَابًا فَقَدْ بَيَّنَهُ تَعَالَى فِي قَوْلِهِ فِي آيَةِ ص هَذِهِ: وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ، وَفِي سُورَةِ النَّبَأِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} [78/ 31- 33].وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ: إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ. وَقَوْلُهُ: فَجَعَلْنَاهُنَّ أَيْ: أَنْشَأْنَاهُنَّ وَصَيَّرْنَاهُنَّ أَبْكَارًا لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ}.قَدْ قَدَّمْنَا مَعْنَى أَصْحَابِ الشِّمَالِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ، وَأَوْضَحْنَا مَعْنَى السَّمُومِ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ الَّتِي يُذْكَرُ فِيهَا فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ} [52/ 27].وَقَدْ قَدَّمْنَا صِفَاتِ ظِلِّ أَهْلِ النَّارِ وَظِلِّ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي سُورَةِ النِّسَاءِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا} [4/ 57]، وَبَيَّنَّا هُنَاكَ أَنَّ صِفَاتِ ظِلِّ أَهْلِ النَّارِ هِيَ الْمَذْكُورَةُ فِي قَوْلِهِ هُنَا: {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ} [56/ 43- 44]، وَقَوْلِهِ فِي الْمُرْسَلَاتِ: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} [77: 30- 31].وَقَوْلُهُ: {مِنْ يَحْمُومٍ} أَيْ مِنْ دُخَانٍ أَسْوَدَ شَدِيدِ السَّوَادِ، وَوَزْنُ الْيَحْمُومِ يَفْعُولُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الْحُمَمِ وَهُوَ الْفَحْمُ، وَقِيلَ: مِنَ الْحَمِّ، وَهُوَ الشَّحْمُ الْمُسْوَدُّ لِاحْتِرَاقِهِ بِالنَّارِ.قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ}.قَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ عَلَيْهِ فِي سُورَةِ الطُّورِ فِي الْكَلَامِ عَلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا} الْآيَةَ [52/ 26- 27].
|